استقل السودان قبل 44 عاما، ولكنه لم يستقر في حكمه، مثلما هو الحال في معظم البلدان حديثة الاستقلال، وقد تأرجح الحكم في السودان بين نظم ديمقراطية ثلاثة ونظم أوتقراطية ثلاثة. أما النظم الديمقراطية لم تستقر لسببين أساسيين؛ الأول: وجود مشكلة الجنوب ذات الجذور التاريخية، والتي رسختها الإدارة البريطانية، وجعلتها أساساً لانفصام في البنية القومية السودانية؛ فأصبحت سبباً لأزمة قومية عرقلت الحياة السياسية وحالت دون التطور الديمقراطي فيه، والثاني: تعلق الجسم السياسي السوداني بمستوى من الممارسة الديمقراطية طموح وفريد في أصوليته الديمقراطية في العالم الثالث كله.
أما النظم الأوتقراطية التي استغلت المشكلات التي سببها الأمران المذكوران لنظم الديمقراطية، فقد استطاعت أن تستمر وتستقر لفترات أطول من النظم الديمقراطية؛ لأنها بطبيعة حالها اهتمت بأمنها وبقائها على حساب كل مهام الحكم الأخرى، ولكنها لم تستطع أن تكتسب شرعية مثلما حدث لنظم انقلابية أخرى لثلاثة أسباب مهمة، الأول: هو أن الشعب السوداني – كشعب ذي تكوين متنوع، ومزاج متسامح للحرية الليبرالية – رفض الديكتاتورية وتعلق بالحرية السياسية فحرم النظم الديكتاتورية من الشرعية؛ أما الثاني: أن النظم الأوتقراطية تبنت برامج أيديولوجية حاولت باسم الاشتراكية العلمية تارة وباسم تطبيق الشرعية الإسلامية تارة أخرى أن تقفز فوق الواقع الاجتماعي السوداني فحصدت الهشيم؛ والثالث: أن النظم الأوتقراطية تبنت مشروع واحدية ثقافية في التعامل مع مسألة الجنوب، وطبقته بغلظة شديدة تدرجت من غلظة نظام الفريق إبراهيم عبود، إلى غلظة المشير جعفر نميري إلى غلطة الفريق عمر البشير الأكثر تشدداً في التمسك بالواحدية الثقافية.
أجندة النظام الحالي
والنظام الحالي الذي استولى على السلطة عن طريق الانقلاب العسكري في 30 يونيو 1989 طبق على السودان أجندة حزبية إسلامية استئصالية صارمة. هذه الأجندة الاستئصالية التي اندفع فيها النظام فرضت على الآخرين في الشمال أحادية فكرية وسياسية نافية للآخر ومخونة له وفرضت على المقاومة الجنوبية برنامجاً جهادياً مكفراً لها. كما تبنت أجندة أيديولوجية لنشر فكرها وسياستها في الدول المجاورة للسودان، وسياساتها في الدول المجاورة للسودان بل وعبر "المؤتمر الشعبي الإسلامي" تبنت هذه الأجندة إقامة "أممية إسلامية" أو قل إسلاموية لما فيها من محتوى أيديولوجية.
قيام تحالف مضاد لأجندة النظام
وقد تصدى الشعب السوداني لهذه الأجندة الأيديولوجية بكل الوسائل. والأجندة بطبيعتها النافية للآخر المخونة والمكفرة له شجعت على قيام تحالف مضاد لها: تحالف ضم كل القوى السياسية السودانية، ودول الجوار، وأجزاء مهمة في الأسرة الدولية. هذا التحالف العريض هزم أجندة النظام الأيدلوجية. وأمام أجندة النظام الأيدلوجية، وضعت القوى السياسية السودانية بقيادة "التجمع الوطني الديمقراطي" - عبر حوارات ومؤتمرات داخل السودان وفي لندن وفي نيروبي وفي شقدوم - أجندة بديلة بلغت قمتها في مؤتمر أسمرا وقراراته التاريخية في يونيو 1995 وخلاصة هذه القرارات:
· إبرام اتفاقية سلام على أساس أن المواطنة هي أساس الحقوق والواجبات الدستورية وعلى أساس المواطنة يتساوى كل السودانيين، وتكفل حقوق الإنسان، وتضمن مبادئ حقوق الإنسان المنصوص عليها في المواثيق الدولية في دستور البلاد، وتحكم البلاد حكمًا لا مركزيًا (فيدراليًا). وتعاد هيكلة مؤسسات الدولة لتعبر عن الإصلاحات الجديدة، وتوزع الثروة القومية على أساس عادل كما تكفل المشاركة العادلة لإقامة وحدة البلاد على أساس طوعي.
· الاعتراف بالتعددية الدينية والثقافية في السودان، وكفالة حقوق المجموعات الوطنية السودانية الدينية الثقافية، وكفالة التعايش المتسامح بينها.
· إقامة الحكم على أساس الشرعية الديمقراطية التعددية ووضع التدابير التي تتجنب ثغرات الماضي وتحقق التوازن، وتجعل الديمقراطية مستديمة.
خطاب النظام الجديد
ومنذ عام 1997 أدرك النظام إخفاق أجندة الأيديولوجية وبدأ يستصحب الأجندة البديلة التي صاغتها المعارضة، ولكن فجوة الثقة الكبيرة القائمة بين النظام والمعارضة منعت الأخيرة من التجاوب مع خطاب النظام الجديد؛ كما أن الطريقة التي صاغ بها النظام خطابه الجديد كانت منفردة. إذ حاول عرضها كأن خطابه الجديد هو امتداد لخطابه القديم، كما استثمر الخلافات بين فصائل المعارضة لاستمالة بعضها لخطابه الجديد فزاد من فجوة الثقة بينه وبين المعارضة. لذلك لم يحقق خطاب النظام الجديد المستصحب لأجندة المعارضة البديلة فائدة ملموسة.
النظام والتجمع تحت مظلة الإيقاد
وفي قرارات أسمرا المصيرية في يونيو 1995 اتفق التجمع على حل القضايا المصيرية وحدد الأهداف المنشودة واتفق على ثلاث وسائل لتحقيقها هي: العمل العسكري، والانتفاضة الشعبية، والحل السياسي المتفاوض عليه عبر وساطة "الإيقاد" (دول القرن الأفريقي). ومنذ يونيو 1995 واصل التجمع عملاً عسكريًا ضد النظام كما واصل تعبئة شعبية في الطريق للانتفاضة، وأعلن تأييده لمبادئ وساطة "الإيقاد". كان النظام السوداني هو الذي ناشد دول "الإيقاد" أن تقوم بدور الوساطة، ولكنه رفض الموافقة على المبادئ الستة التي اقترحها الوسطاء. واستمر النظام يرفضها، مع قبول المعارضة لها، إلى عام 1997 حين أعلن النظام الموافقة عليها. وتحت مظلة وساطة "الإيقاد" جرت اجتماعات كثيرة بين النظام والحركة الشعبية لتحرير السودان (بقيادة د. جون قرنق) اجتماعات تواصلت حتى 7 أبريل 2000 ولكنها لم تتقدم خطوة إلى الأمام؛ فقد كانت حوارات طرشان.
انتقاد حزب الأمة للإيقاد
وفي عام 1998 انتقد حزب الأمة إطار وساطة "الإيقاد" على أساس 3 عيوب:
- أن الوساطة محصورة في اثنين من أطراف النزاع هما النظام السوداني والحركة الشعبية بينما ينبغي أن يشمل التفاوض جميع أطراف النزاع في السودان، وأن يمثل "التجمع الوطني الديمقراطي" فيها.
- أن أجندة التفاوض معنية بالسلام وحده، واتفاقية السلام المزمعة ينبغي أن تستقر في الدستور، والدستور نفسه محل خلاف حاد بين الأطراف السودانية لذلك ينبغي أن تشمل الأجندة موضوع الدستور.
- ينبغي أن يشارك جيراننا في الشمال الإفريقي (مصر وليبيا) في مساعي الحل السياسي لأزمات السودان.
وقد اتضح جليًا أن عوامل مختلفة تحول دون مراجعة إطار "الإيقاد"، لذلك ظلت المطالبة بتوسيعها تراوح مكانها حتى بعد أن تبناها "التجمع الوطني الديمقراطي" بقرار من هيئة قيادته.
تأزم الموقف في أواخر عام 1998
ومنذ أواخر 1998 بدأ واضحًا أن المأساة الإنسانية في السودان تتفاقم:
- أن وساطة "الإيقاد" عاطلة، لذلك تعدد المناشدات لمجلس الأمن أن يتدخل في النزاع السوداني. ففي نوفمبر 1998 كتبت أربع منظمات عالية هي أكسفام، وأطباء بلا حدود، وكير، وصندوق إنقاذ الأطفال خطابًا لأمين عام الأمم المتحدة تدين أطراف النزاع السودانية وتتهمها بالتراخي في عملية السلام، وتؤكد أن المأساة الإنسانية في السودان لا يمكن القضاء عليها إذا استمرت الحرب، وتناشد الأمين العام لمخاطبة مجلس الأمن التدخل. وفي بداية عام 1999 بدا واضحًا أن إخفاقات سياسات النظام أدت لاندلاع حروب قبلية في السودان لا سيما في غرب البلاد وجنوبها مما ينذر ببلقنة البلاد وأن إخفاق مفاوضات السلام ينذر بتدويل القضية.
لذلك استجبنا دون تردد لوساطة سودانية بادر بها د. كامل الطيب إدريس في أول مايو 1999 ، فانفتحت بذلك نافذة تفاوض مباشرة بيننا وبين النظام أدت إلى اتفاق شفهي في مايو 1999 لعقد مؤتمر جامع يضم النظام والمعارضة لبحث كل المسائل المتنازع عليها.
المبادرة المصرية الليبية
وكانت مصر قلقة جدًا من ناحية عدم مشاركتها في وساطة "الإيقاد" واحتمالات تدويل القضية السودانية لذلك كانت تتلمس الطريق للقيام بمبادرة، وكنا نبدي ترحيبًا بهذا الدور المصري ولنفس الأسباب كانت ليبيا قلقة بشأن السودان. وكنا كذلك نبدي ترحيبًا بدورها. وفي يوليو 1999 دعت ليبيا هيئة قيادة التجمع لاجتماع في طرابلس كانت نتيجته التوقيع على إعلان طرابلس في 1/8/1999. إعلان طرابلس تبنته مصر وليبيا وصار أساس المبادرة المشتركة لحل النزاعات السودانية وإبرام اتفاق سياسي شامل. و هذه المبادرة منذ بدايتها حققت نتائج ملموسة أهمها:
1- اعتراف متبادل بين النظام والتجمع الوطني الديمقراطي
2- رفع الحظر عن الأحزاب السياسية السودانية
3- إطلاق سراح المعتقلين السياسيين.
4- كفالة حرية التنقل
5- رد الممتلكات المصادرة لأصحابها.
أمريكا معترضة
ولكن الولايات المتحدة الأمريكية لم ترحب بهذه المبادرة المشتركة ليس لوجود ليبيا فيها فحسب، ولكن لأسباب أيديولوجية، لأسباب فصلتها في مكان آخر. فالسياسة الدولية الأمريكية تعتبر السودان جزءًا من القرن الإفريقي الكبير، وتعتبر جيران السودان في شمال إفريقيا جزءًا من منظومة الشرق الأوسط؛ لذلك عندما زار د.جون قرنق أمريكا عوتب على التوقيع على إعلان طرابلس وقبول المبادرة المشتركة. وأوضح أنه قبلها لأسباب تكتيكية. وأنه سوف يفرغها لتموت موتًا طبيعيًا. ود.جون قرنق لديه أسباب أخرى للتخلي عن المبادرة المشتركة؛ لأن المبادرة تقيم منبرًا يشاركه فيه المعارضون الآخرون ويجردونه من احتكار تحديد الموقف التفاوضي. لقد اتضح من دلائل كثيرة أن د.جون قرنق يتطلع لوضع سوداني استئصالي للآخر، تمامًا مثل أجندة النظام مع الفرق الآتي: أجندة النظام الأيديولوجية القديمة استئصالية على أساس ديني، وأجندة د. جون قرنق استئصالية على أساس خلطة علمانية إثنية.
هذا الموقف ليس واضحًا لكل الذين يؤيدون موقف د.جون قرنق. ولكن القضايا السودانية صارت واضحة. وسوف يجد نفسه مضطرًا إلى التخلي عن الموقف الاستئصالي والسياسة الحربية التي تدعمه، والانخراط في عملية الحل السياسي الشامل أو العزلة.
أجندة الحل السياسي الشامل
ومنذ بداية نشاط حزبنا العلني في السودان، لا سيما بعد عودة عدد كبير من قياداتنا لداخل السودان في 6 أبريل، اتضح لنا أن الخط الذي سرنا فيه يجد تأييدًا شعبيًا واسعًا في السودان كمًا يجد عطفًا كبيرًا لدى دول جوار السودان ولدى الرأي العام فيها. لذلك بلورنا الأجندة الوطنية وهي أجندة الحل السياسي الشامل. وهي أجندة تقوم على عمودين أساسيين هما اتفاقية سلام عادل، وتحول ديمقراطي حقيقي، بالإضافة لتفاصيل حددناها في مذكرة وزعناها على جميع الفصائل السياسة السودانية من 21 أكتوبر 1999. إننا نعمل الآن على نطاق واسع داخل البلاد لتعبئة شعبية سودانية على أساس هذه الأجندة الوطنية.
وآلية التفاوض بشأن تحقيق هذه الأجندة هي المؤتمر القومي الجامع، أو الملتقى الجامع، الذي سوف تنظمه المبادرة المشتركة.
إن الفرصة التاريخية مواتية للمبادرة المشتركة للمضي قدمًا في سبيل تحقيق أهدافها. وسوف نفلح في ذلك، لا سيما إذا أدخلت التعديلات الثلاثة الآتية:
- إعلان واضح بأن المبادرة، وهي حريصة على وحدة السودان، سوف تبارك ما يتفق عليه السودانيون.
- إشراك جيران السودان في القرن الإفريقي أو أغلبهم للمبادرة.
- الحصول على تأييد شركاء "الإيقاد" أو أغلبهم للمبادرة.
بعض الناس يثير شكوكًا في صدق النظام، لكل أن يرى ما يراه. ولكننا، وبصرف النظر عن صدق النظام، نقول إن مؤشرات كثيرة تؤكد التحول نحو كفالة حقوق الإنسان والحريات العامة: هذه هي مقولة الرئيس محمد خاتمي والقوة الكبيرة التي يمثلها في إيران. وهي مقولة المؤتمر القومي الإسلامي الذي عقد آخر مؤتمراته في بيروت في يناير 2000 الماضي. وهي الأفكار التي ظهرت واضحة في "إعلان القاهرة" الذي أصدرته القمة الأفريقية الأوروبية وهي الأفكار التي تؤيدها بصورة قوية أغلبية الشعب السوداني التي جهرت برأيها بوضوح.
لقد أكد لنا قادة النظام السوداني بصورة قاطعة تأييدهم لاتفاقية سلام شامل في السودان، وتأييدهم لتحول ديمقراطي حقيقي. وهناك دلائل على أنهم دعموا أقوالهم بأفعال. وسوف نواصل المشوار حتى انعقاد الملتقى أو المؤتمر للوصول للحل السياسي الشامل. ونتوقع أن يكون لجيراننا، بل للأسرة الدولية، دور مراقبة ومتابعة لتأكيد الالتزام بما يتفق عليه لقد تخطى الشأن السوداني مرحلة الظلام الدامس وبدأ ضوء في آخر النفق المظلم. سوف نعمل بكل الوسائل ليعم الضوء القرى والحضر
كاتب هذا المقال: زعيم حزب الأمة، ورئيس وزراء السودان الأسبق.
أما النظم الأوتقراطية التي استغلت المشكلات التي سببها الأمران المذكوران لنظم الديمقراطية، فقد استطاعت أن تستمر وتستقر لفترات أطول من النظم الديمقراطية؛ لأنها بطبيعة حالها اهتمت بأمنها وبقائها على حساب كل مهام الحكم الأخرى، ولكنها لم تستطع أن تكتسب شرعية مثلما حدث لنظم انقلابية أخرى لثلاثة أسباب مهمة، الأول: هو أن الشعب السوداني – كشعب ذي تكوين متنوع، ومزاج متسامح للحرية الليبرالية – رفض الديكتاتورية وتعلق بالحرية السياسية فحرم النظم الديكتاتورية من الشرعية؛ أما الثاني: أن النظم الأوتقراطية تبنت برامج أيديولوجية حاولت باسم الاشتراكية العلمية تارة وباسم تطبيق الشرعية الإسلامية تارة أخرى أن تقفز فوق الواقع الاجتماعي السوداني فحصدت الهشيم؛ والثالث: أن النظم الأوتقراطية تبنت مشروع واحدية ثقافية في التعامل مع مسألة الجنوب، وطبقته بغلظة شديدة تدرجت من غلظة نظام الفريق إبراهيم عبود، إلى غلظة المشير جعفر نميري إلى غلطة الفريق عمر البشير الأكثر تشدداً في التمسك بالواحدية الثقافية.
أجندة النظام الحالي
والنظام الحالي الذي استولى على السلطة عن طريق الانقلاب العسكري في 30 يونيو 1989 طبق على السودان أجندة حزبية إسلامية استئصالية صارمة. هذه الأجندة الاستئصالية التي اندفع فيها النظام فرضت على الآخرين في الشمال أحادية فكرية وسياسية نافية للآخر ومخونة له وفرضت على المقاومة الجنوبية برنامجاً جهادياً مكفراً لها. كما تبنت أجندة أيديولوجية لنشر فكرها وسياستها في الدول المجاورة للسودان، وسياساتها في الدول المجاورة للسودان بل وعبر "المؤتمر الشعبي الإسلامي" تبنت هذه الأجندة إقامة "أممية إسلامية" أو قل إسلاموية لما فيها من محتوى أيديولوجية.
قيام تحالف مضاد لأجندة النظام
وقد تصدى الشعب السوداني لهذه الأجندة الأيديولوجية بكل الوسائل. والأجندة بطبيعتها النافية للآخر المخونة والمكفرة له شجعت على قيام تحالف مضاد لها: تحالف ضم كل القوى السياسية السودانية، ودول الجوار، وأجزاء مهمة في الأسرة الدولية. هذا التحالف العريض هزم أجندة النظام الأيدلوجية. وأمام أجندة النظام الأيدلوجية، وضعت القوى السياسية السودانية بقيادة "التجمع الوطني الديمقراطي" - عبر حوارات ومؤتمرات داخل السودان وفي لندن وفي نيروبي وفي شقدوم - أجندة بديلة بلغت قمتها في مؤتمر أسمرا وقراراته التاريخية في يونيو 1995 وخلاصة هذه القرارات:
· إبرام اتفاقية سلام على أساس أن المواطنة هي أساس الحقوق والواجبات الدستورية وعلى أساس المواطنة يتساوى كل السودانيين، وتكفل حقوق الإنسان، وتضمن مبادئ حقوق الإنسان المنصوص عليها في المواثيق الدولية في دستور البلاد، وتحكم البلاد حكمًا لا مركزيًا (فيدراليًا). وتعاد هيكلة مؤسسات الدولة لتعبر عن الإصلاحات الجديدة، وتوزع الثروة القومية على أساس عادل كما تكفل المشاركة العادلة لإقامة وحدة البلاد على أساس طوعي.
· الاعتراف بالتعددية الدينية والثقافية في السودان، وكفالة حقوق المجموعات الوطنية السودانية الدينية الثقافية، وكفالة التعايش المتسامح بينها.
· إقامة الحكم على أساس الشرعية الديمقراطية التعددية ووضع التدابير التي تتجنب ثغرات الماضي وتحقق التوازن، وتجعل الديمقراطية مستديمة.
خطاب النظام الجديد
ومنذ عام 1997 أدرك النظام إخفاق أجندة الأيديولوجية وبدأ يستصحب الأجندة البديلة التي صاغتها المعارضة، ولكن فجوة الثقة الكبيرة القائمة بين النظام والمعارضة منعت الأخيرة من التجاوب مع خطاب النظام الجديد؛ كما أن الطريقة التي صاغ بها النظام خطابه الجديد كانت منفردة. إذ حاول عرضها كأن خطابه الجديد هو امتداد لخطابه القديم، كما استثمر الخلافات بين فصائل المعارضة لاستمالة بعضها لخطابه الجديد فزاد من فجوة الثقة بينه وبين المعارضة. لذلك لم يحقق خطاب النظام الجديد المستصحب لأجندة المعارضة البديلة فائدة ملموسة.
النظام والتجمع تحت مظلة الإيقاد
وفي قرارات أسمرا المصيرية في يونيو 1995 اتفق التجمع على حل القضايا المصيرية وحدد الأهداف المنشودة واتفق على ثلاث وسائل لتحقيقها هي: العمل العسكري، والانتفاضة الشعبية، والحل السياسي المتفاوض عليه عبر وساطة "الإيقاد" (دول القرن الأفريقي). ومنذ يونيو 1995 واصل التجمع عملاً عسكريًا ضد النظام كما واصل تعبئة شعبية في الطريق للانتفاضة، وأعلن تأييده لمبادئ وساطة "الإيقاد". كان النظام السوداني هو الذي ناشد دول "الإيقاد" أن تقوم بدور الوساطة، ولكنه رفض الموافقة على المبادئ الستة التي اقترحها الوسطاء. واستمر النظام يرفضها، مع قبول المعارضة لها، إلى عام 1997 حين أعلن النظام الموافقة عليها. وتحت مظلة وساطة "الإيقاد" جرت اجتماعات كثيرة بين النظام والحركة الشعبية لتحرير السودان (بقيادة د. جون قرنق) اجتماعات تواصلت حتى 7 أبريل 2000 ولكنها لم تتقدم خطوة إلى الأمام؛ فقد كانت حوارات طرشان.
انتقاد حزب الأمة للإيقاد
وفي عام 1998 انتقد حزب الأمة إطار وساطة "الإيقاد" على أساس 3 عيوب:
- أن الوساطة محصورة في اثنين من أطراف النزاع هما النظام السوداني والحركة الشعبية بينما ينبغي أن يشمل التفاوض جميع أطراف النزاع في السودان، وأن يمثل "التجمع الوطني الديمقراطي" فيها.
- أن أجندة التفاوض معنية بالسلام وحده، واتفاقية السلام المزمعة ينبغي أن تستقر في الدستور، والدستور نفسه محل خلاف حاد بين الأطراف السودانية لذلك ينبغي أن تشمل الأجندة موضوع الدستور.
- ينبغي أن يشارك جيراننا في الشمال الإفريقي (مصر وليبيا) في مساعي الحل السياسي لأزمات السودان.
وقد اتضح جليًا أن عوامل مختلفة تحول دون مراجعة إطار "الإيقاد"، لذلك ظلت المطالبة بتوسيعها تراوح مكانها حتى بعد أن تبناها "التجمع الوطني الديمقراطي" بقرار من هيئة قيادته.
تأزم الموقف في أواخر عام 1998
ومنذ أواخر 1998 بدأ واضحًا أن المأساة الإنسانية في السودان تتفاقم:
- أن وساطة "الإيقاد" عاطلة، لذلك تعدد المناشدات لمجلس الأمن أن يتدخل في النزاع السوداني. ففي نوفمبر 1998 كتبت أربع منظمات عالية هي أكسفام، وأطباء بلا حدود، وكير، وصندوق إنقاذ الأطفال خطابًا لأمين عام الأمم المتحدة تدين أطراف النزاع السودانية وتتهمها بالتراخي في عملية السلام، وتؤكد أن المأساة الإنسانية في السودان لا يمكن القضاء عليها إذا استمرت الحرب، وتناشد الأمين العام لمخاطبة مجلس الأمن التدخل. وفي بداية عام 1999 بدا واضحًا أن إخفاقات سياسات النظام أدت لاندلاع حروب قبلية في السودان لا سيما في غرب البلاد وجنوبها مما ينذر ببلقنة البلاد وأن إخفاق مفاوضات السلام ينذر بتدويل القضية.
لذلك استجبنا دون تردد لوساطة سودانية بادر بها د. كامل الطيب إدريس في أول مايو 1999 ، فانفتحت بذلك نافذة تفاوض مباشرة بيننا وبين النظام أدت إلى اتفاق شفهي في مايو 1999 لعقد مؤتمر جامع يضم النظام والمعارضة لبحث كل المسائل المتنازع عليها.
المبادرة المصرية الليبية
وكانت مصر قلقة جدًا من ناحية عدم مشاركتها في وساطة "الإيقاد" واحتمالات تدويل القضية السودانية لذلك كانت تتلمس الطريق للقيام بمبادرة، وكنا نبدي ترحيبًا بهذا الدور المصري ولنفس الأسباب كانت ليبيا قلقة بشأن السودان. وكنا كذلك نبدي ترحيبًا بدورها. وفي يوليو 1999 دعت ليبيا هيئة قيادة التجمع لاجتماع في طرابلس كانت نتيجته التوقيع على إعلان طرابلس في 1/8/1999. إعلان طرابلس تبنته مصر وليبيا وصار أساس المبادرة المشتركة لحل النزاعات السودانية وإبرام اتفاق سياسي شامل. و هذه المبادرة منذ بدايتها حققت نتائج ملموسة أهمها:
1- اعتراف متبادل بين النظام والتجمع الوطني الديمقراطي
2- رفع الحظر عن الأحزاب السياسية السودانية
3- إطلاق سراح المعتقلين السياسيين.
4- كفالة حرية التنقل
5- رد الممتلكات المصادرة لأصحابها.
أمريكا معترضة
ولكن الولايات المتحدة الأمريكية لم ترحب بهذه المبادرة المشتركة ليس لوجود ليبيا فيها فحسب، ولكن لأسباب أيديولوجية، لأسباب فصلتها في مكان آخر. فالسياسة الدولية الأمريكية تعتبر السودان جزءًا من القرن الإفريقي الكبير، وتعتبر جيران السودان في شمال إفريقيا جزءًا من منظومة الشرق الأوسط؛ لذلك عندما زار د.جون قرنق أمريكا عوتب على التوقيع على إعلان طرابلس وقبول المبادرة المشتركة. وأوضح أنه قبلها لأسباب تكتيكية. وأنه سوف يفرغها لتموت موتًا طبيعيًا. ود.جون قرنق لديه أسباب أخرى للتخلي عن المبادرة المشتركة؛ لأن المبادرة تقيم منبرًا يشاركه فيه المعارضون الآخرون ويجردونه من احتكار تحديد الموقف التفاوضي. لقد اتضح من دلائل كثيرة أن د.جون قرنق يتطلع لوضع سوداني استئصالي للآخر، تمامًا مثل أجندة النظام مع الفرق الآتي: أجندة النظام الأيديولوجية القديمة استئصالية على أساس ديني، وأجندة د. جون قرنق استئصالية على أساس خلطة علمانية إثنية.
هذا الموقف ليس واضحًا لكل الذين يؤيدون موقف د.جون قرنق. ولكن القضايا السودانية صارت واضحة. وسوف يجد نفسه مضطرًا إلى التخلي عن الموقف الاستئصالي والسياسة الحربية التي تدعمه، والانخراط في عملية الحل السياسي الشامل أو العزلة.
أجندة الحل السياسي الشامل
ومنذ بداية نشاط حزبنا العلني في السودان، لا سيما بعد عودة عدد كبير من قياداتنا لداخل السودان في 6 أبريل، اتضح لنا أن الخط الذي سرنا فيه يجد تأييدًا شعبيًا واسعًا في السودان كمًا يجد عطفًا كبيرًا لدى دول جوار السودان ولدى الرأي العام فيها. لذلك بلورنا الأجندة الوطنية وهي أجندة الحل السياسي الشامل. وهي أجندة تقوم على عمودين أساسيين هما اتفاقية سلام عادل، وتحول ديمقراطي حقيقي، بالإضافة لتفاصيل حددناها في مذكرة وزعناها على جميع الفصائل السياسة السودانية من 21 أكتوبر 1999. إننا نعمل الآن على نطاق واسع داخل البلاد لتعبئة شعبية سودانية على أساس هذه الأجندة الوطنية.
وآلية التفاوض بشأن تحقيق هذه الأجندة هي المؤتمر القومي الجامع، أو الملتقى الجامع، الذي سوف تنظمه المبادرة المشتركة.
إن الفرصة التاريخية مواتية للمبادرة المشتركة للمضي قدمًا في سبيل تحقيق أهدافها. وسوف نفلح في ذلك، لا سيما إذا أدخلت التعديلات الثلاثة الآتية:
- إعلان واضح بأن المبادرة، وهي حريصة على وحدة السودان، سوف تبارك ما يتفق عليه السودانيون.
- إشراك جيران السودان في القرن الإفريقي أو أغلبهم للمبادرة.
- الحصول على تأييد شركاء "الإيقاد" أو أغلبهم للمبادرة.
بعض الناس يثير شكوكًا في صدق النظام، لكل أن يرى ما يراه. ولكننا، وبصرف النظر عن صدق النظام، نقول إن مؤشرات كثيرة تؤكد التحول نحو كفالة حقوق الإنسان والحريات العامة: هذه هي مقولة الرئيس محمد خاتمي والقوة الكبيرة التي يمثلها في إيران. وهي مقولة المؤتمر القومي الإسلامي الذي عقد آخر مؤتمراته في بيروت في يناير 2000 الماضي. وهي الأفكار التي ظهرت واضحة في "إعلان القاهرة" الذي أصدرته القمة الأفريقية الأوروبية وهي الأفكار التي تؤيدها بصورة قوية أغلبية الشعب السوداني التي جهرت برأيها بوضوح.
لقد أكد لنا قادة النظام السوداني بصورة قاطعة تأييدهم لاتفاقية سلام شامل في السودان، وتأييدهم لتحول ديمقراطي حقيقي. وهناك دلائل على أنهم دعموا أقوالهم بأفعال. وسوف نواصل المشوار حتى انعقاد الملتقى أو المؤتمر للوصول للحل السياسي الشامل. ونتوقع أن يكون لجيراننا، بل للأسرة الدولية، دور مراقبة ومتابعة لتأكيد الالتزام بما يتفق عليه لقد تخطى الشأن السوداني مرحلة الظلام الدامس وبدأ ضوء في آخر النفق المظلم. سوف نعمل بكل الوسائل ليعم الضوء القرى والحضر
كاتب هذا المقال: زعيم حزب الأمة، ورئيس وزراء السودان الأسبق.